حدود السلطة التقديرية لقاضي الحكم الجنائي - يونس نفيد


حدود السلطة التقديرية لقاضي الحكم الجنائي

مجلة قانونك
حدود السلطة التقديرية لقاضي الحكم الجنائي


حدود السلطة التقديرية لقاضي الحكم الجنائي

من إعداد: يونس نفيد
 باحث في  القانون الجنائي والعلوم جنائية
 

مقدمة
أعطى المشرع لقضاء الحكم عدة سلطات للتمكن من تقدير الأدلة سواء كانت أدلة إثبات أم أدلة نفي. ومن بين هذه السلطات ، سلطة حرية الإثبات ( الفقرة الأولى ) ، ثم سلطة حرية الاقتناع والتقدير ( الفقرة الثانية ).
تعتبر حرية الإثبات من أهم الخصائص المميزة لنظام الإثبات الجنائي والمقصود بها أن الجريمة تثبت بكل الوسائل الممكنة، وهو خلاف ما عليه الأمر في المادة المدنية، حيث الإثبات مقيد، لكونه يتعلق بتصرفات قانونية[1].
نصت المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية المغربي ، على أنه :
 " يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ، ما عدا في الأحوال التي يقضي القانون فيها بخلاف ذلك...".
يتبين من مقتضيات المادة أعلاه، أن المشرع المغربي يتبنى مبدأ حرية الإثبات، بإعطائه سلطة الإثبات للقاضي الجنائي كيفما كانت طبيعة الأدلة. وذلك سواء كانت هذه الأدلة وسائل تأكيد أو نفي للاتهام.

وقد اقتبس المشرع المغربي مبدأ حرية الإثبات من نظيره الفرنسي الذي ينص في قانون المسطرة الجنائية على أنه : " يجوز إثبات الجرائم بجميع وسائل الإثبات ويحكم القاضي بناء على اقتناعه الصميم، ما لم يوجد نص بخلاف ذلك [2] .
ودأب الاجتهاد القضائي المغربي أيضا ، على تكريس مبدأ حرية الإثبات الممنوحة للقاضي الجنائي . حيث أقر المجلس الأعلى سابقا ( محكمة النقض حاليا ) في أحد قراراته [3] ما يلي : " لما كان القانون قد أعطى لقضاة الموضوع كامل الصلاحية لتكوين قناعاتهم من جميع وسائل الإثبات ، ولم يقيدهم بوسيلة إثبات معينة إلا في حالات استثنائية محددة على سبيل الحصر، فإن المحكمة تكون قد استعملت سلطتها التقديرية ، التي لا رقابة عليها بما في ذلك اعتراف المتهمين المحكوم عليهم في نفس القضية " .
وجاء في قرار آخر[4] : " يمكن إثبات الجرائم بأي وسيلة من وسائل الإثبات ، ما عدا في الأحوال التي قضى فيها القانون بخلاف ذلك ، وعليه إذا تبت أمام المحكمة وجود اعتراف المتهم في محضر البحث التمهيدي بالفعل الجنائي المتابع من اجله ، وكان هذا الاعتراف قد تجدد أمام النيابة العامة ، وتعزز بشهادة الشهود ، وبضبط الجاني في حالة تلبس ، فإن تقديرها لا يخضع لرقابة المجلس الأعلى " .
ويجد مبدأ حرية الإثبات مبرره من خلال إقراره من قبل التشريع ، والاجتهاد القضائي. كما يذهب الاتجاه الغالب من الفقه أيضا إلى إقرار المبدأ أعلاه ، لكون الجريمة ليست كيانا ماديا خالصا قوامه الفعل وآثاره ، إنما هي كذلك كيان نفسي ، ويراد به الأصول النفسية لماديات الجريمة [5] . وذلك لأن المجرمين غالبا ما يعملون بخفاء وسرية ، ويحاولون طمس معالم جرائمهم و محو مخلفاتهم من آثار وأدلة .
بناء عليه ، وحفاظا على مصالح المجتمع العليا ، وعلى أمنه واستقراره ونظرا لتعدد أساليب ووسائل الإثبات العلمية ، تم إقرار مبدأ حرية الإثبات ، الذي يستلزم أن يخول القضاة إثبات الجريمة والخطورة الإجرامية بكافة الوسائل ، كي يلقى الجناة العقوبة أو التدبير التي تقتضيهما المصلحة الاجتماعية [6] .
تجدر الإشارة إلى أن المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية المغربي ، لم تخول للقاضي السلطة المطلقة في اعتماد الأدلة ، وإنما خولته سلطة نسبية من خلال إقرارها أولوية للنصوص التي تقيد مبدأ حرية الإثبات ، ونذكر من هذه النصوص :
أولا- المادة 288 من قانون المسطرة الجنائية المغربي التي تنص على انه : " إذا كان ثبوت الجريمة يتوقف على دليل تسري عليه أحكام القانون المدني أو أحكام خاصة ، تراعي المحكمة في ذلك الأحكام المذكورة " . وذلك لأن الأصل في التصرفات المدنية أن يتم إثباتها بوسائل حصرها المشرع في قانون الالتزامات والعقود في : الإقرار، والحجة الكتابية ، وشهادة الشهود ، والقرائن ، واليمين ومثال ذلك : انه لا بد من إثبات عقود الأمانة بواسطة قواعد القانون المدني ، لكي يتاح رفع الدعوى العمومية ضد شخص باعتباره خائنا للأمانة .
ثانيا- الفصل 493 من القانون الجنائي ، الذي يفرض إثبات الجرائم المنصوص عليها في الفصلين 490و 491 منه بمحضر رسمي يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس أو بناء على اعتراف تضمنته مكاتب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي.
ثالثا- المادة 294 من قانون المسطرة الجنائية المغربي ، التي تنص بأنه : " لا يمكن أن ينتج الدليل الكتابي من الرسائل المتبادلة بين المتهم ومحاميه " .
رابعا- المادة 333 من قانون المسطرة الجنائية المغربي التي تمنع الاستماع لشهادة محامي المتهم حول ما علمه بهذه الصفة .
خامسا- المادة 213 من قانون المسطرة الجنائية المغربي التي تقضي بمنع الرجوع إلى وثائق التحقيق التي أبطلت قصد استخلاص أدلة ضد الأطراف في الدعوى وإلا خضع القضاة والمحامون لمتابعات تأديبية .
سادسا- المواد 287-289-290-292-293-295-296 من قانون المسطرة الجنائية المغربي...
والحكمة من هذه الاستثناءات ، هي تحقيق بعض الضمانات الهادفة إلى إظهار الحقيقة أو حماية حقوق الدفاع ، أو الحفاظ على بعض الاعتبارات الاجتماعية أو الأسرية [7] .

لم يعرف المشرع المغربي سلطة تقدير الدليل و إنما ترك ذلك لتقدير الفقه والاجتهاد القضائي ، وقد عرف الأستاذ  Maudet[8] تقدير الدليل ، بأنه الجهد الاستنباطي الذي يقوم به القاضي لفرز الحقيقة من الدليل المتوفر لديه . والقاعدة أن القاضي حر في تقدير الدليل ، بشرط أن ينبني تقديره على أدلة استخلصت من إجراءات يقرها القانون ، وأدلة غير مطعون بمشروعيتها طرحت للمناقشة أمام المحكمة .
أقر قانون المسطرة الجنائية للقاضي حرية الاقتناع [9] ، إبان تقدير الأدلة شريطة تبرير تقديره للأدلة التي اعتمدها في حيثيات الحكم الصادر عنه . فقد نصت المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية المغربي على أنه : "...يحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا للبند رقم الثامن من المادة 365 الآتية بعده .
إذا ارتأت المحكمة أن الإثبات غير قائم صرحت بعدم إدانة المتهم وحكمت ببراءته " .
كما ألزمت المادة 365 من قانون المسطرة الجنائية المغربي القاضي كذلك أن يضمن كل حكم أو قرار أو أمر ، الأسباب الواقعية والقانونية التي ينبني عليها الحكم أو القرار أو الأمر الصادر عنه ولو في حالة الحكم بالبراءة [10]
و قد أقر المجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا ) أيضا مبدأ حرية الاقتناع شريطة تعليل هذا الاقتناع ، في أحد قراراته التي جاء فيها : " المجادلة في قيمة حجج الإثبات التي حظيت بقبول قضاة الزجر، في نطاق سلطتهم التقديرية ، لا تمتد إليها رقابة المجلس الأعلى " .

وجاء في قرار آخر[11] أنه : " يجب أن يكون كل حكم معلل من الناحيتين الواقعية والقانونية ، وإلا كان باطلا ، وأنه إذا كان من حق القضاة أن يكونوا اقتناعهم في جميع الأدلة المعروضة عليهم ، فيجب أن تؤدي تلك الأدلة منطقيا وعقلا إلى النتيجة التي انتهوا إليها " .
وتعتبر حرية الاقتناع الممنوحة للقاضي ، نسبية وليست مطلقة ، إذ تقيدها النصوص التي تقضي بخلاف ذلك كما هو الشأن بالنسبة لحرية الإثبات إضافة إلى إلزامية قناعة القاضي كما هو مبين أعلاه . ولعل أهم قيد يرد على حرية الاقتناع ، هو وجوب بناء الأحكام بالإدانة على الجزم واليقين، وذلك تطبيقا لقاعدة الشك يفسر لصالح المتهم [12] .

]من أجل تتمة المقال - يرجى تحميله أسفله

من أجل تحميل هذا المقال كاملا -  إضغط هناك - أو أسفله

قانونك

من أجل تحميل العدد الرابع - إضغط هنا أو أسفله على الصورة

مجلة قانونك - العدد الثالث